الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإن قلت: إن الشمس والقمر من النجوم فلم أفردهما بالذكر ثم عطف عليهما ذكر النجوم؟قلت: إنما أفردهما بالذكر لبيان شرفهما على سائر الكواكب لما فيهما من الإشراق والنور وسيرهما في المنازل لتعرف الأوقات فهو كقوله: من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فعطف جبريل وميكال على ذكر الملائكة وإن كانا من الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما على غيرهما من الملائكة وقوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} يعني: له الخلق لأنه خلقهم وله أن يأمر فيهم بما أراد وله أن يحكم فيهم بما شاء وعلى هذا المعنى الأمر هنا الذي هو نقيض النهي، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله.وقيل: معناه أن جميع ما في العالم لله عز وجل والخلق له لأنه خلقهم وجميع الأمور تجري بقضائه وقدره فهو مجريها ومنشئها فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء، وقيل: المراد بالأمر هنا الإرادة لأن الغرض من الآية تعظيم القدرة وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب وله الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأجد من خلقه عليه {تبارك الله} يعني تمجد وتعظم وارتفع، وقال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة ومعنى البركة الكثرة من كل خير وقيل معناه تعالى وتعظم الله: {رب العالمين} يعني أنه هو الذي يستحق التعظيم وذلك أن الله تعالىلما افتتح هذه الآية بقوله: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} وذكر أشياء من عظيم خلقه وأن له الخلق والأمر والنهي والقدرة عليهم ختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق والثناء والتعظيم.وقال ابن عباس رضي الله عنهما.معناه جاء بكل بركة.وقيل: تبارك معناه تقدس والتقديس الطهارة.وقيل معناه باسمه يتبرك في كل شيء وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت ويقال تبارك الله ولا يقال متبارك ولا مبارك لأنه لم يرد به التوقيف. اهـ.
.قال أبو حيان: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكمال القدرة والعلم والقضاء ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة، وربّكم خطاب عام للمؤمن والكافر، وروى بكار بن {إنّ ربّكم الله} بنصب الهاء عطف بيان والظاهر أنه {خلق السماوات والأرض في ستة أيام} وعلى هذا الظاهر فسّر معظم الناس وبدأ بالخلق يوم الأحد وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بعد العصر إلى الليل»، وقال عدي بن زيد العبادي: قضى لستة أيام خليقته، وكان آخر يوم صوّر الرّجلا، وهو اختيار محمد بن إسحاق، قال ابن الأنباري هذا إجماع أهل العلم.وقال عبد الله بن سلام وكعب والضحّاك ومجاهد واختاره الطبري بدأ بالخلق يوم الأحد وبه يقول أهل التوراة، وقيل يوم الإثنين وبه يقول أهل الإنجيل، قال ابن عباس وكعب ومجاهد والضحّاك مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة ولا فرق بين خلقه تعالى ذلك في لحظة واحدة أو في مدد متوالية بالنسبة إلى قدرته تعالى وإبداء معان لذلك كما زعمه بعض المفسرين قول بلا برهان فلا نسوّد كتابنا بذكره وهو تعالى المنفرد بعلم ذلك، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ التقدير في قوله: {في ستة أيام} في مقدار ستة أيام فليست ستة الأيام أنفسها وقع فيها الخلق وهذا كقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار وإنما ذهب الذاهب إلى هذا لأنه إنما يمتاز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها قبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل خلق الأيام والذي أقول: إنه متى أمكن حمل الشيء على ظاهره أو على قريب من ظاهره كان أولى من حمله على ما لا يشمله العقل أو على ما يخالف الظاهر جملة وذلك بأن يجعل قوله: {في ستة أيام} ظرفًا لخلق الأرض لا ظرفًا لخلق السموات والأرض فيكون {في ستة أيام} مدة لخلق الأرض بتربتها وجبالها وشجرها ومكروهها ونورها ودوابها وآدم عليه السلام وهذا يطابق الحديث الثابت في الصحيح وتبقى ستة أيام على ظاهرها من العددية ومن كونها أيامًا باعتبار امتياز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها وأما استواؤه على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات.وقال سفيان الثوري فعل فعلًا في العرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال: {العرش} مصدر عرش يعرش عرشًا والمراد بالعرش في قوله: {ثم استوىعلى العرش} هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد الله الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك ولفظة {العرش} مشتركة بين معان كثيرة فالعرش سرير الملك ومنه ورفع أبويه على العرش نكروا لها عرشها و{العرش} السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش و{العرش} الملك والسلطان والعزّ، وقال زهير:وقال آخر: والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة والعرش أربعة كواكب صغار أسفل من العواء يقال لها: عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع واستوى أيضًا يستعمل بمعنى استقرّ وبمعنى علا وبمعنى قصد وبمعنى ساوى وبمعنى تساوى وقيل بمعنى استولى وأنشدوا: وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله: {ثم استوى على العرش} يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله: {الرحمن على العرش استوى} لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في {استوى} عائد على الخلق المفهوم من قوله: {تنزيلًا ممن خلق الأرض والسماوات العلى} أي هو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك.وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه الآية فقال: كيف استوى فأطرق رأسه مليًّا وعلّته الرخصاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالًا ثم أمر به فأخرج.{يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا} التغشية التغطية والمعنى أنه يذهب الليل نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل والنهار فالليل للسكون والنهار للحركة وفحوى الكلام يدلّ على أنّ النهار يغشيه الله الليل وهما مفعولان لأنّ التضعيف والهمزة معدّيان، وقرأ بالتضعيف الأخوان وأبو بكر وبإسكان الغين باقي السبعة وبفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس كذا قال عنه أبو عمرو الداني، وقال أبو الفتح عثمان بن جني عن حميد بنصب {اليل} ورفع {النهار}، قال ابن عطية وأبو الفتح أثبت انتهى وهذا الذي قاله من أنّ أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أثمة القراءات فضلًا عن النحاة الذين ليسوا مقرئي ولا رووا القرآن عن أحد ولا روي عنهم القرآن هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النّقل وعدم التجاسر ووفور الخط من العربية فقد رأيت له كتابًا في كلا وكتابًا في إدغام أبي عمرو الكبير دلًا على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أثمة النحاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه رحمه الله والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأنّ ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وإن كان منصوبًا هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيره مفعولًا ولا يجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدّى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيدًا عمرًا إذ رتبة التقديم هي الموضّحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى والجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثًا ويجوز أن يكون حالًا من النهار وتقديره محثوثًا ويجوز أن ينتصب نعتًا لمصدر محذوف أي طلبًا حثيثًا أي حثًا أو محثًا ونسبة الطلب إلى الليل مجازية وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكأنه طالب له لا يدركه بل هو في إثره بحيث يكاد يدركه وقدّم الليل هنا كما قدمه في {يولج الليل في النهار} وفي {ولا اليل سابق النهار} وفي {وجعل الظلمات والنور}، وقال أبو عبد الله الرازي وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة لأنّ تعاقب الليل والنهار يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدّة حتى إنّ الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا: الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل قبل أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ولهذا قال: {يطلبه حثيثًا} ونظيره {لا الشمس ينبغى لها} الآية شبه ذلك المسير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على السرعة والسهولة وكمال الاتصال انتهى وفيه بعض تلخيص.{والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره} انتصب {مسخرات} على الحال من المجموع أي وخلق الشمس، وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر، وقرأ أبلان بن ثعلب برفع {والنجوم مسخّرات} فقط على الابتداء والخبر ومعنى {بأمره} بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمي ذلك أمرًا على التشبيه كأنّهن مأمورات بذلك، وقال أبو عبد الله الرازي الشمس لها نوعان من الحركة أحدهما بحسب ذاتها وذلك يتم في سنة كاملة وبسبب ذلك تحصل السّنة، والثاني حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ويتم في اليوم بليلته فتقول الليل والنهار لا يحصلان بحركة الشمس وإنما يحصلان بحركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش فلهذا السبب لما دل على العرش بقوله: {ثم استوى على العرش} وربط بقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره} تنبيهًا على أنّ الفلك الأعظم وهو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم الشمس قوة قاهرة باعتبارها قويت على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله، انتهى.وتكلم في قوله: {مسخّرات بأمره} كلامًا كثيرًا هو من علم الهيئة وهو علم لم ننظر فيه قال: أربابه وهو علم شريف يطلع فيه على جزئيات غريبة من صنعة الله تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجمليتها، وقيل {بأمره} أي بنفاذ إرادته إذ المقصود تبيين عظيم قدرته لقوله: {ائتيا طوعًا أو كرهًا} وقوله: {إنما قولنا لشيء} وقيل الأمر هو الكلام.{ألا له الخلق والأمر} لما تقدّم ذكر خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمره فيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه في ذلك ولا في شيء منه، وقيل: الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلى هذا قال النقاش وغيره: الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى، وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعيّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه، وقال الشعبي: الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة.{تبارك الله رب العالمين} أي علا وعظم ولما تقدّم {إن ربكم الله} صدر الآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء {العالمين} أعمّ من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعًا لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم. اهـ.
|